فصل: سورة الرحمن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 40‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء، والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها، ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً، قال الفرزدق‏:‏

مستقبلين شمال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور

الثالث‏:‏ أن الحاصب السحاب الذي حصبهم‏.‏

الرابع‏:‏ أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم‏.‏

الخامس‏:‏ أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء‏.‏

‏{‏إِلاَّ ءَالَ لُوطٍ‏}‏ يعني ولده ومن آمن به‏.‏

‏{‏نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ‏}‏ والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ‏}‏ يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال، وكانوا على أحسن صورهم، فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة‏.‏

‏{‏فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ‏}‏ والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي، وفي طمس أعينهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم، مع بقاء أعينهم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

‏{‏فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه وعيد بالعذاب الأدنى، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال، وهو معنى قول الحسن، وقتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ‏}‏ يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم‏.‏

‏{‏أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ‏}‏ يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا، ومنه قول الشاعر‏:‏

وترى منها رسوماً قد عفت *** مثل خط اللام في وحي الزبر

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ‏}‏ يعني بالعدد والعدة، وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً، ويحتمل انتصارهم وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏لأنفسهم بالظهور‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ لآلهتهم بالعبادة‏.‏

فرد الله عليهم فقال‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ يعني كفار قريش وذلك يوم بدر، وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها، وفي ذلك يقول حسان‏:‏

ولقد وليتم الدبر لنا *** حين سال الموت من رأس الجبل

‏{‏بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ‏}‏ يعني القيامة‏.‏

‏{‏وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر‏.‏

الثاني‏:‏ أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا‏.‏

وفي قوله ‏{‏أدْهَى‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أخبث‏.‏

الثاني‏:‏ أعظم‏.‏

‏{‏وَأَمَرُّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أنفذ، مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 55‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت‏.‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ بحكم سابق وقضاء محتوم، ومنه قول الراجز‏:‏

وقدر المقدر الأقدارا‏.‏ *** ‏{‏وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ‏}‏ يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية، فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير‏.‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المستطر المكتوب، قاله الحسن وعكرمة وابن زيد، لأنه مسطور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المحفوظ، قاله قتادة‏.‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن النهر أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أن النهر الضياء والنور، ومنه النهار، قاله محمد بن إسحاق، ومنه قول الراجز‏:‏

لولا الثريدان هلكنا بالضمر *** ثريد ليل وثريد بالنهر

الثالث‏:‏ أنه سعة العيش وكثرة النعيم، ومنه اسم نهر الماء، قاله قطرب‏.‏

‏{‏فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم‏.‏

الثاني‏:‏ مقعد صدق لله وعد أولياءه به، والمليك والملك واحد، وهو الله كما قال ابن الزبعري‏:‏

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذا أنابوا

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن المليك مستحق الملك، والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر‏.‏

ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً، وأعلى مجزاً‏.‏

الثاني‏:‏ ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم، والله أعلم‏.‏

سورة الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏الرَّحْمَنُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، قاله الحسن، وقطرب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ و‏{‏حم‏}‏ و‏{‏ن‏}‏ فيكون مجموع هذه ‏{‏الرَّحْمَنُ‏}‏، قاله سعيد بن جبير، وابن عباس‏.‏

‏{‏عَلَّمَ الْقُرْءانَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس‏.‏

الثاني‏:‏ سهل تعلمه على جميع الناس‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني آدم، قاله الحسن وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد، وهو قول الأكثرين‏.‏

‏{‏عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان، وفيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن البيان الحلال والحرام، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الخير والشر، قاله الضحاك، والربيع بن أنس‏.‏

الثالث‏:‏ المنطق والكلام، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ الخط، وهو مأثور‏.‏

الخامس‏:‏ الهداية، قاله ابن جريج‏.‏

السادس‏:‏ العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه‏.‏

ويحتمل سابعاً‏:‏ أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين‏:‏ إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له‏.‏

وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر‏:‏ خلق الإنسان جاهلاً به، فعلمه السبيل إليه‏.‏

‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بحساب، قاله ابن عباس، والحسبان مصدر الحساب، وقيل‏:‏ جمعه‏.‏

الثاني‏:‏ معنى الحسبان هذه آجالها، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ يدوران، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ معناه يجريان بقدر‏.‏

‏{‏وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ‏}‏ في النجم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نجم السماء، وهو موحد والمراد به جميع النجوم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها، ليس له ساق، والشجر ما كان على ساق، قاله ابن عباس‏.‏

وفي سجودهما خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هو سجود ظلهما، قاله الضحاك‏.‏ الثاني‏:‏ هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أن سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يتفيأ ظلاله‏}‏، قاله الزجاج‏.‏

الرابع‏:‏ أن سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها‏.‏

الخامس‏:‏ أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء، قاله الفراء‏.‏

‏{‏وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا‏}‏ يعني على الأرض‏.‏

‏{‏وَوَضَعَ الْمِيزَانَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أن الميزان الحكم‏.‏

الثالث‏:‏ قاله قتادة، ومجاهد، والسدي‏:‏ أنه العدل، ومنه قول حسان‏:‏

ويثرب تعلم أنا بها *** إذا التبس الأمر ميزانها

‏{‏أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ‏}‏ وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العدل وطغيانه الجور، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس، قاله مقاتل، وقال ابن عباس‏:‏ يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم‏:‏ المكيال والميزان‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الحكم، وطغيانه التحريف‏.‏

‏{‏وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ‏}‏ أي بالعدل، قال مجاهد‏:‏ القسط‏:‏ العدل‏.‏

‏{‏وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ‏}‏ أي لا تنقصوه بالبخس قيل‏:‏ إنه المقدار‏:‏ فالجور إن قيل‏:‏ إنه العدل، والتحريف إن قيل‏:‏ الحكم‏.‏

وفي وجه رابع‏:‏ أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ‏}‏ أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها‏.‏

وفي الأنام ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الناس، قاله ابن عباس، وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

مبارك الوجه يستسقى الغمام به *** ما في الأنام له عدل ولا خطر

الثاني‏:‏ أن الأنام الإنس والجن، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح، قاله مجاهد، وقتادة والسدي، سمي بذلك لأنه ينام، قال الشاعر‏:‏

جاد الإله أبا الوليد ورهطه *** رب الأنام وخصه بسلام

‏{‏فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذات الأكمام النخل، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

وذات أثارة أكلت عليها *** نباتاً في أكمتة قفار

الثالث‏:‏ أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ‏}‏ أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير‏.‏

وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الزرع إذا اصفر ويبس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه حب المأكول منه، قاله الضحاك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَعَصْفٍ مَأكُولٍ‏}‏‏.‏

وأما الريحان ففيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الرزق، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي، والعرب تقول‏:‏ خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه، ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك، وقال النمر بن تولب‏:‏

سلام الإله وريحانه *** ورخيته وسماء درر

قاله الضحاك، ورخيته هي لغة حِمْيَر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الريحان الذي يشم، قاله الحسن، والضحاك، وابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ‏}‏ في الآلاء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها النعم، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان، قاله ابن عباس، ومنه قول طرفة‏:‏

كامل يجمع الآلاء الفتى *** بيديه سيد السادات خصم

الثاني‏:‏ أنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، قاله ابن زيد، والكلبي‏.‏

وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع‏.‏

وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال‏:‏ «مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً‏؟‏‏!‏ الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ ‏{‏فَبَأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ قَالُوا‏:‏ وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ»‏.‏

وتكرارها في هذه السورة لتقرير النعم التي عددها، فقررهم عند كل نعمة منها، كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً‏؟‏ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً‏:‏

على أن ليس عدلاً من كليب *** إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلاً من كليب *** إذا خرجت مخبأة الخدور

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 25‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الطين المختلط برمل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك، وهذا مروي عن عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الطين المنتن، قاله الضحاك، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن‏.‏

والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام‏.‏

قال عبد الله بن سلام‏:‏ خلق الله آدم من تراب من طين لازب، فتركه كذلك أربعين سنة، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة، فذلك مائة وعشرون سنة، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك، لأمر ما خلقك‏.‏

‏{‏وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لهب النار، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ خلط النار، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ‏[‏اللهب‏]‏ الأخضر والأصفر ‏[‏والأحمر‏]‏ الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنها النار المرسلة التي لا تمتنع، قاله المبرد‏.‏

الخامس‏:‏ أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته‏.‏

وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أبوالجن، قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إبليس، وهو قول مأثور‏.‏

وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها من النار الظاهرة بين الخلق، قاله الأكثرون‏.‏

الثاني‏:‏ من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها، قاله الفراء‏.‏

‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن المشرقين مشرق الشمس والقمر، والمغربين مغربهما‏.‏

الثالث‏:‏ أن المشرقين الفجر والشمس، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع‏:‏ ان المشرقين مشرق القلب واللسان، والمغربين مغرب القلب واللسان‏.‏

‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ‏}‏ أما البحران ففيهما خمسة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بحر السماء وبحر الأرض، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بحر فارس والروم، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه البحر المالح والأنهار العذبة، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما‏.‏

الخامس‏:‏ انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان‏.‏

وأما ‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ‏}‏ ففيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تفريق البحرين، قاله ابن صخر‏.‏

الثاني‏:‏ إسالة البحرين، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ استواء البحرين، قاله مجاهد‏.‏

وأصل المرج، الإهمال كما تمرج الدابة في المرج‏.‏

‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ‏}‏ في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه حاجز، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عرض الأرض، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ما بين السماء والأرض، قاله عطية، والضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ لا يبغيان أن يلتقيا، قاله ابن زيد، وتقدير الكلام، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا‏.‏

وقال سهل‏:‏ البحران طريق الخير وطريق الشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة‏.‏

‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ وفي المرجان أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ عظام اللؤلؤ وكباره، وقاله علي وابن عباس، ومنه قول الأعشى‏:‏

من كل مرجانة في البحر أخرجها *** تيارها ووقاها طينة الصدف

الثاني‏:‏ أنه صغار اللؤلؤ، قاله الضحاك وأبو رزين‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الخرز الأحمر كالقضبان، قاله ابن مسعود‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الجوهر المختلط، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً، فصار خرجاً منهما‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى، ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح‏.‏

‏{‏وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ‏}‏ أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى، والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب‏.‏

وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها المخلوقات، قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنها المحملات، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنها المرسلات، ذكره ابن كامل‏.‏

الرابع‏:‏ المجريات، قاله الأخفش‏.‏

الخامس‏:‏ أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة، وما لم يرفع ليست بمنشأة، قاله الكلبي‏.‏

وقرأ حمزة ‏{‏الْمُنشَئَاتُ‏}‏ بكسر الشين، وفي معناه على هذه القراءة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ البادئات، قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام، قاله ابن بحر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏كَالأَعْلاَمِ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام، قاله السدي‏.‏ قالت الخنساء‏:‏

وإن صخراً لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار

الثاني‏:‏ أن الأعلام القصور، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض، لأهل الأرض، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم يسألونه القوة على العبادة، قاله ابن عطاء، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة، قاله أبو صالح‏.‏

قال قتادة‏:‏ لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، قال الكلبي‏:‏ وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏27‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏28‏)‏ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر‏:‏ الدهر كله يومان‏:‏ أحدهما‏:‏ مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر، والنهي، والإحياء، والأمانة، والإعطاء، والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء، والحساب، والثواب، والعقاب‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا‏.‏

وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة‏.‏

القول الثاني‏:‏ ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور، ويكون اليوم عبارة عن الوقت‏.‏

روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال‏:‏ كل يوم هو في شأن، يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويتوب على قوم، ويغفر لقوم‏.‏

وقال سويد بن غفلة‏:‏ كل يوم هو في شأن، هو يعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويحرم عقاباً‏.‏

وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً، وَيَفْرِجَ كَرْباً، وَيَرَفَعَ قَوماً، وَيَضَعَ آخَرِينَ»

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏32‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏34‏)‏ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي لنقومن عليكم على وجه التهديد‏.‏

الثاني‏:‏ سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، وقال جرير‏:‏

الآن وقد فرغت إلى نمير *** فهذا حين كنت لها عذاباً

أي قصدت لهم، والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض‏.‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، لن تعلموه إلا بسلطان، قاله عطية العوفي‏.‏

الثاني‏:‏ إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني إلا بحجة، قاله مجاهد، قاله ابن بحر‏:‏ والحجة الإيمان‏.‏

الثاني‏:‏ لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشواظ لهب النار، قاله ابن عباس، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت‏:‏

يمانياً يظل يشد كيراً *** وينفخ دائباً لهب الشواظ

‏[‏فأجابه حسان فقال‏]‏‏:‏

همزتك فاختضعت بذل نفسٍ *** بقافية تأجج كالشواظ

الثاني‏:‏ أنه قطعة من النار فيها خضرة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الدخان، رواه سعيد بن جبير، قال رؤبة بن العجاج‏:‏

إن لهم من وقعنا أقياظا *** ونار حرب تسعر الشواظا

الرابع‏:‏ أنها طائفة من العذاب، قاله الحسن‏.‏

وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الصفر المذاب على رؤوسهم، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه دخان النار، قاله ابن عباس، قال النابغة الجعدي‏:‏

كضوء سراج السلي *** ط لم يجعل الله فيه نحاساً

الثالث‏:‏ أنه القتل، قاله عبد الله بن أبي بكرة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه نحس لأعمالهم، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 45‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏38‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏40‏)‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏42‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏

‏{‏فَكَانَتْ وَرْدَةً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وردة البستان، وهي حمراء، وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها الحمرة، وبها يضرب المثل في لون الحمرة، قال عبد بني الحسحاس‏:‏

فلو كنت ورداً لونه لعشقتني *** ولكن ربي شانني بسواديا

كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر، فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد، لاختلاف ألوانه، قاله الكلبي والفراء‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏كَالدِّهَانِ‏}‏ خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني خالصة، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ صافية، قاله الأخفش‏.‏

الثالث‏:‏ ذات ألوان، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ صفراء كلون الدهن، وهذا قول عطاء الخراساني، وأبي الجوزاء‏.‏

الخامس‏:‏ الدهان أديم الأرض الأحمر، قاله ابن عباس، قال الأعشى‏:‏

وأجرد من فحول الخيل طرف *** كأن على شواكله دهانا

وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها‏.‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كانت المسألة قبل، ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم، قاله الفراء‏.‏

‏{‏يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ‏}‏ قال قتادة‏:‏ يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءَانٍ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو الذي انتهى حره وحميمه، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني‏:‏

وتخضب لحية غدرت وخانت *** بأحمر من نجيع الجوف آن

أي حار‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الحاضر، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 53‏]‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏47‏)‏ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏51‏)‏ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت، والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب‏.‏

قال الضحاك‏:‏ بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال‏:‏ «رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ» وتلا عليه هذه الآية‏.‏

وفي مقام ربه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو مقام بين يدي العرض والحساب‏.‏

الثاني‏:‏ هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر‏.‏

وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ جنة الإنس وجنة الجان، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ جنة عدن، وجنة النعيم، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أنهما بستانان من بساتين الجنة، وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة‏.‏

الرابع‏:‏ أن إحدى الجنتين منزله، والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن إحدى الجنتين مسكنه، والأخرى بستانه‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أن إحدى الجنتين أسافل القصور، والأخرى أعاليها‏.‏

‏{‏ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ذواتا ألوان، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ذواتا أنواع من الفاكهة، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ ذواتا أتا وسَعَةٍ، قاله الربيع بن أنس‏.‏

الرابع‏:‏ ذواتا أغصان، قاله الأخفش وابن بحر‏.‏

والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر‏:‏

ما هاج سوقك من هديل حمامة *** تدعوا على فنن الغصون حماما

تدعو أبا فرخين صادف ضارياً *** ذا مخلبين من الصقور قطاما

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 61‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏55‏)‏ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏56‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏57‏)‏ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏58‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏59‏)‏ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ‏(‏60‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بطائنها يريد به ظواهرها، قاله قتادة‏.‏

والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد البطانة دون الظهارة، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق، قاله الكلبي‏.‏

وسئل عباس فما الظواهر‏؟‏ قال‏:‏ إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله‏.‏

‏{‏وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ‏}‏ فأما الجنا فهو الثمر، ومنه قول الشاعر‏:‏

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه

وفي قوله‏:‏ ‏{‏دَانٍ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ قصر طرفهن على أزواجهن، لا يسددن النظر إلى غيرهم، ولا يبغين بهم بدلاً‏.‏

‏{‏لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لم يمسسهن، قال أبو عمرو‏:‏ الطمث المس، وذلك في كل شيء يمس‏.‏

الثاني‏:‏ لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث‏:‏ التذليل، قاله المبرد‏.‏

الثالث‏:‏ لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان، وذلك قيل للحيض طمث، قال الفرزدق‏:‏

دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي *** وهن أصح من بيض النعام

وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس‏.‏

‏{‏هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هل جزاء الطاعة إلا الثواب‏.‏

الثاني‏:‏ هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ هل جزاء التوبة إلا المغفرة، قاله جعفر بن محمد الصادق‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ‏(‏62‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏63‏)‏ مُدْهَامَّتَانِ ‏(‏64‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏65‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ‏(‏66‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏67‏)‏ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ‏(‏68‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏69‏)‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ‏(‏70‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏71‏)‏ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ‏(‏72‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏73‏)‏ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ‏(‏74‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏75‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ‏(‏76‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏77‏)‏ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي أقرب منهما جنتان‏.‏

الثاني‏:‏ أي دون صفتهما جنتان‏.‏

وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه، قال ابن عباس‏:‏ فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأوليين للسابقين، والأخريين للتابعين، قاله الحسن‏.‏

قال مقاتل‏:‏ الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى، وفي الجنات الأربع جنان كثيرة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه، لقصور منزلتهم عن منزلته، إحدهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، لتميز بهما الذكور عن الإناث‏.‏

‏{‏مُدْهَآمَّتَانِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أي خضراوان، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ مسودتان، قاله مجاهد، مأخوذ من الدهمة وهي السواد، ومنه سمي سود الخيل دهماً‏.‏

الثالث‏:‏ ‏[‏خضروان من الرّي‏]‏ ناعمتان، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدهما‏:‏ ممتلئتان لا تنقطعان، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ جاريتان، قاله الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ فوّارتان، وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان، وذكر في الأخريين عينين نضاختين، والجري أكثر من النضخ‏.‏

وبماذا هما نضاختان‏؟‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بالماء، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بالمسك والعنبر، قاله أنس‏.‏

الثالث‏:‏ بالخير والبركة، قاله الحسن، والكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ‏}‏ يعني الجنات الأربع، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف، وفي المراد بها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الخير والنعم المستحسنة‏.‏

الثاني‏:‏ خيرات الفواكه والثمار، وحسان في المناظر والألوان‏.‏

والقرءة الثانية بالتشديد، وفي المراد بها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مختارات‏.‏

الثاني‏:‏ ذوات الخير وفيهن قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن الحور المنشآت في الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا‏.‏

وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً‏:‏

الثاني‏:‏ لأنهن عذارى أبكاراً، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ لأنهن مختارات‏.‏

الرابع‏:‏ لأنهن خيرات صالحات، قاله أبو عبيدة‏.‏

‏{‏حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ المخدرات المصونات، ولا متعطلات ولا متشوِّفات، قاله زيد بن الحارث، وأبو عبيدة‏.‏

الرابع‏:‏ أنهن المسكنات في القصور، قاله الحسن‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن يريد بالمقصورات البيض، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل‏:‏

وفي الخيام ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الخيام هي البيوت، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور‏.‏

روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ»‏.‏

روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ «نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم»‏.‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه، قاله ابن كامل‏.‏

الثاني‏:‏ فضول الفرش والبسط، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الوسائد، قاله الحسن وعاصم الجحدري‏.‏

الرابع‏:‏ أنها الفرش المرتفعة، مأخوذ من الرف‏.‏

الخامس‏:‏ أنها المجالس يتكئون على فضولها‏.‏

السادس‏:‏ رياض الجنة، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الطنافس المخملية، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ الديباج، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد، قاله مجاهد ‏[‏أيضاً‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر‏.‏

وفي عبقري قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سيد القوم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه‏:‏ «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ» فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه‏.‏

الثاني‏:‏ أرض عبقر‏.‏

وفي تسميتها بذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لكثرة الجن فيها‏.‏

الثاني‏:‏ لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض‏.‏

‏{‏تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه ثبت اسم ربك ودام‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذكر اسمه يمن وبركة، ترغيباً في مداومة ذكره‏.‏

‏{‏ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ‏}‏ في ‏{‏ذِي الْجَلاَلِ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجليل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المستحق للإجلال والإعظام‏.‏

وفي ‏{‏الإكْرَامِ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الكريم‏.‏

الثاني‏:‏ ذو الإكرام لمن يطيعه‏.‏

سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الصيحة، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ الساعة وقعت بحق فلم تكذب، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنها القيامة، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من الشدائد‏.‏

‏{‏لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ‏}‏ فيها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ليس لها مردود، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لا رجعة فيها ولا مشورة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر، قاله ابن كامل‏.‏

الرابع‏:‏ ليس الخبر عن وقوعها كذباً‏.‏

‏{‏خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثاني‏:‏ خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة، قاله عمر بن الخطاب‏.‏

الثالث‏:‏ خفضت الصوت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى، قاله عكرمة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت، ورفعت بالنفخة الثانية من أحيت‏.‏

‏{‏إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ رجفت وزلزلت، قاله ابن عباس، قاله رؤبة بن العجاج‏:‏

أليس يوم سمي الخروجا *** أعظم يوم رجه رجوجاً

يوماً يرى مرضعة خلوجاً *** الثاني‏:‏ أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه، قاله الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة ما على ظهرها من الأحياء، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج لإخراج من في بطنها من الموتى‏.‏

‏{‏وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ سالت سيلاً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ هدت هداً، قاله عكرمة،

الثالث‏:‏ سيرت سيراً، قاله محمد بن كعب، ومنه قول الأغلب العجلي‏:‏

نحن بسسنا بأثر أطاراً *** أضاء خمساً ثمت سارا

الرابع‏:‏ قطعت قطعاً، قاله الحسن‏.‏‏.‏

الخامس‏:‏ إنها بست كما يبس السويق أي بلت، البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً، قال لص من غطفان‏:‏

لا تخبزا خبزاً وبسا بسا *** ولا تطيلا بمناخ حبسا

‏{‏فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رهج الغبار يسطع ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك، قاله علي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها شعاع الشمس الذي من الكوة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت، فإذا وقع لم يكن شيئاً، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه الريح، قاله قتادة‏.‏

وفي المنبث ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ المتفرق، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ المنتشر‏.‏

الثالث‏:‏ المنثور‏.‏

‏{‏وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً‏}‏ يعني أصنافاً ثلاثة، قال عمر بن الخطاب‏:‏ اثنان في الجنة وواحد في النار‏.‏

وفيهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما قاله ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«وكنتم أزوجاً ثلاثة» الآية‏.‏

ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر، فصار زوجاً‏.‏

الثاني‏:‏ أن في كل صنف منهم رجالاً ونساء، فكان زوجاً‏.‏

‏{‏فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏ فيهم خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ أن أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم، وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أن أصحاب الميمنة أهل الجنة، وأصحاب المشأمة أهل النار، قاله السدي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ‏}‏ لتكثير ما لهم من العقاب‏.‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ فيهم خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأنبياء، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل أمة، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم الذين صلوا إلى القبلتين، قاله ابن سيرين‏.‏

الرابع‏:‏ هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سوادة‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم أربعة‏:‏ منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما‏:‏ أبو بكر وعمر، قاله ابن عباس‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان الرغبة والرهبة‏.‏

وفي تكرار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ السابقون في الدنيا إلى الإيمان، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم، وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 26‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الجماعة، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولست ذليلاً في العشيرة كلها *** تحاول منها ثلة لا يسودها

الثاني‏:‏ الشطر وهو النصف، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الفئة، قاله أبو عبيدة، ومنه قول دريد بن الصمة‏:‏

ذريني أسير في البلاد لعلني *** ألاقي لبشر ثلة من محارب

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنَ الأَوََّلِينَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو بكرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قوم نوح، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا، روى أبو هريرة أنه لما نزلت ‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخِرِينَ‏}‏ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ‏{‏ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ‏}‏ فقال عليه السلام‏:‏ «إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ الثَّانِي»‏.‏

‏{‏عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ‏}‏ يعني الأسرة، واحدها سرير، سميت بذلك لأنها مجلس السرور‏.‏

وفي الموضونة أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الموصولة بالذهب، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها المشبكة النسج، قاله الضحاك، ومنه قول لبيد‏:‏

إن يفزعوا فسرا مع موضونة *** والبيض تبرق كالكواكب لامها

الثالث‏:‏ أنها المضفورة، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور‏.‏

الرابع‏:‏ أنها المسندة بعضها إلى بعض‏.‏

‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ‏}‏ الولدان‏:‏ جمع وليد وهم الوصفاء‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّخَلَّدُونَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏مسورون‏]‏ بالأسورة، ‏[‏مقرطون‏]‏ بالأقراط، قاله الفراء، قال الشاعر‏:‏

ومخلدات باللجين كأنما *** أعجازهن أقاوز الكثبان

الثاني‏:‏ أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون، قاله الحسن، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وهل ينعمن إلا سعيد مخلد *** قليل الهموم ما يبيت بأوجال

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا‏.‏

‏{‏بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ‏}‏ فيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأكواب‏:‏ التي ليس لها عُرى، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأكواب‏:‏ مدورة الأفواه، والأباريق‏:‏ التي يغترف بها، قاله قتادة، قال الشاعر‏:‏

فعدوا عليّ بقرقف *** ينصب من أكوابها

‏{‏وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ‏}‏ والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب، والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر، وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين‏.‏

‏{‏لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لا يمنعون منها، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا يفرّقون عنها، حكاه ابن قتيبة، واستشهد عليه بقول الراجز‏:‏

صد عنه فانصدع‏.‏ *** الثالث‏:‏ لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع، قاله ابن جبير، وقتادة، ومجاهد، والسدي‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنزِفُونَ‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا تنزف عقولهم فيسكرون، قاله ابن زيد، وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لا يملون، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ لا يتقيئون، قاله يحيى بن وثاب‏.‏

الرابع‏:‏ وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم، ومنه قول الأبيرد‏:‏

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم *** لبئس الندامى أنتم آل أبجرا

وروى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ في الخمر أربع خصال‏:‏ السكر، والصداع، والقيء، والبول، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال‏.‏

‏{‏وَحُورٌ عِينٌ‏}‏ والحور البيض سمين لبياضهن، وفي العين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن كبار الأعين، كما قال الشاعر‏:‏

إذا كبرت عيون من النساء *** ومن غير النساء فهن عين

الثاني‏:‏ أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك، وبياض أعينهن نقي، كما قال الشاعر‏:‏

إذا ما العين كان بها احورار *** علامتها البياض على السواد

‏{‏كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في نضارتها وصفاء ألوانها‏.‏

الثاني‏:‏ أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن، كما قال الشاعر‏:‏

كأنما خلقت في قشر لؤلؤة *** فكل أكنافها وجه لمرصاد

‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لا يسمعون فيها خُلفاً، أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا، ولا يأثمون بشربها، كما يأثمون في الدنيا، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ لا يسمعون فيها شتماً ولا مأثماً، قاله مجاهد‏.‏

يحتمل رابعاً‏:‏ لا يسمعون مانعاً لهم منها، ولا مشنعاً لهم على شربها‏.‏

‏{‏إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لكن يسمعون قولاً ساراً وكلاماً حسناً‏.‏

الثاني‏:‏ لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق‏.‏

الثالث‏:‏ يعني قولاً يؤدي إلى السلامة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن يقال لهم هنيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 40‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أصحاب الحق، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم دون منزلة المقربين، قاله ميمون بن مهران‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم من أعطي كتابه بيمينه، قاله يعقوب بن مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم التابعون بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ ما رواه أسباط عن السدي‏:‏ أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا الجنة ولا أبالي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة الذر سوداء، فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأصْحَابُ الْشِّمَالِ‏}‏‏.‏

السادس‏:‏ ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أصحاب اليمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا‏.‏»

‏{‏فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ‏}‏ والسدر النبق، وفي مخضود ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اللين الذي لا شوك فيه، قاله عكرمة، وقال غيره لا عجم لنبقه، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الموقر حملاً، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ المدلاة الأغصان، وخص السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه ريحاً‏.‏

‏{‏وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الطلح الموز، قاله ابن عباس، وابو سعيد الخدري، وأبو هريرة، والحسن، وعكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة، قاله عبد الله بن حميد، وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً، ليكون بعض شجرهم مأكولاً وبعضه منظوراً، قال الحادي‏:‏

بشرها دليلها وقالا *** غداً ترين الطلح والأحبالا

الثالث‏:‏ أنه الطلع، قاله علي، وحكى أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏وَطَلْعٍ مَّنضُودٍ‏}‏، وفي المنضود قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المصفوف، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ المتراكم، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَظِلٍ مَّمْدُودٍ‏}‏ أي دائم‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ أنه التام‏.‏

‏{‏وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ‏}‏ أي منصب في غير أخدود‏.‏

ويحتمل آخر‏:‏ أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود والهبوط بخلاف الدنيا، قال الضحاك‏:‏ من جنة عدن إلى أهل الخيام‏.‏

‏{‏وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد بشوك أو بعد‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة بالأشجار‏.‏

‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» قاله ابن بحر‏.‏ فعلى هذا يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن‏.‏

الثاني‏:‏ مرفوعات عن الفواحش والأدناس‏.‏

‏{‏إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً‏}‏ يعني نساء أهل الدنيا، وفي إنشائهن في الجنة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني إنشاءهن في القبور، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ إعادتهن بعد الشمط والكبر صغاراً أبكاراً، قاله الضحاك، وروته أم سلمة مرفوعاً‏:‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عذارى بعد أن كن غير عذارى، قاله يعقوب بن مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا يأتيها إلا وجدها بكراً، قاله ابن عباس‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أبكاراً من الزوجات، وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى، كما قال الشاعر‏:‏

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلباً فارغاً فتمكنا

قوله تعالى ‏{‏عُرُباً أَتْرَاباً‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم، قاله سعيد بن جبير، والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على طاعته ويتساعدن على إشاعته، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ الشكلة بلغة أهل مكة، والغنجة بلغة أهل المدينة، قاله ابن زيد، ومنه قول لبيد‏:‏

وفي الخباء عروب غير فاحشة *** ريا الروادف يعشى دونها البصر

الرابع‏:‏ هن الحسنات الكلام، قاله ابن زيد‏.‏ ‏[‏أيضاً‏]‏‏.‏

الخامس‏:‏ أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها‏.‏

السادس‏:‏ أنها الحسنة التبعُّل، لتكون ألذ استمتاعاً‏.‏

السابع‏:‏ ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عُرُباً كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي»

‏{‏أَتْراباً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أقران، قاله عطية‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة، يقال في النساء أتراب، وفي الرجال أقران، وأمثال، وأشكال، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد، قاله السدي‏.‏